حكايتان

المقاله تحت باب  قصة قصيرة
في 
21/08/2012 06:00 AM
GMT



الثعلب
التقينا في مكتبة ستوكهولم. تملكني شعور طاغٍ بأن هذه البنت لي. او يجب ان تَضْحى لي. كانت تجلس في الطرف الثاني من المنضدة تتصفح المجلات. البشرة بلون القهوة، العينان خضراوان، والفم متورد بلا مكياج.
سألتني إن كنت انا الذي اخرجَ مسرحية 'الثعلب'.
اجبت بسرور:
- نعم. انها من احسن اعمالي.
سألتْ عن مواضيع شتى: الموسيقى والتاريخ والأدب والطبخ. سألتْ عن كل شيء. كان
محياها البشوش يعكس التوق الجارف للمعرفة والطموح للأنجاز. احسَ كل منا وكأن الآخر صديق قديم. سألت في اللقاء الثاني ونحن في مقهى اتحاد الفنانين:
- هل انا جديرة بصداقتك؟
قلت باستغراب وانا أُلَوِّحُ بيدي الى النادل:
- طبعاً. ماذا تقصدين؟
خفضت العينين الواسعتين كمن يقر بذنب:
- اعرف انني فتاة بسيطة، محدودة الكفاءات، او مجرد كومبارس في مسرح، بينما انت مخرج شهير ... لكن ثق انني قادرة على التعلم سريعاً.
احرجني اطراؤها. رجوت النادل احضار قدحي آيس كريم، وسألتُ مرة اخرى:
- ماذا تقصدين بالضبط؟
زَفَرَتْ بحيرة وجاوبتني:
- اريد ان اكون صديقتك.
- ولكنك اصبحت صديقتي فعلاً.
رقَّصتْ الحاجبين الرفيعين ولم تعلق.
وضع النادل على المائدة كرات آيس كريم ملونة. غرَزَتْ ملعقة خشب في الكرة
البيضاء، وقالت دون ان ترفع عينيها نحوي:
- اريد ان اكون اكثر من صديقة. تواصل حوارنا نحو ساعتين وتشعب. عرفتُ في
غضون ذلك انها من ام مراكشية واب سويدي، وانها تصغرني عشرين عاماً، وإن ما تريده هو الحب، وليس الشهرة كما خيل لي بادئ الأمر.
عند اللقاء الثالث في البيت، جلسنا على اريكتين متجاورتين تقابلان مائدة عليها
كونياك وزيتون وفستق وعلب سجائر. بعد ان شربتُ كأساً كبيرة تمنيت لو حملتها بيدي للفراش. أوقدتُ شمعتين حمراوين، فيما قالت هي بارتياح:
- اشعر معك بالأمان، وتتعزز ثقتي.
انهت شرب الكأس الأولى. اوشكتُ ان احملها للفراش. لكنني قلت، كطبيب يُطَمِئنُ
مريضاً معافى في الواقع:
- شكراً. هذا يسعدني. فلنترك العواطف تأخذ مجراها الطبيعي... انتقلتْ الى اريكتي. رشفتْ الكاس الجديدة والقت برأسها على كتفي اليمين. اخذتْ تنتحب بهدوء. تساءلتُ وانا امسد شعرها القصير بحنان:
- لماذا؟
تركتْ كتفي وتنفست بعمق:
- كم تمنيت لو انني عرفتكَ من زمان. لو عرفتك على الأقل منذ اخرجتَ 'الثعلب'.
- اعجبتكِ مسرحيتي الى هذا لحد؟!
- شاهدتها مرتين.
مَسَحَتْ الأنف المحمر بمنديل واشعلت سيجارة. ملأتُ الكاسين بالكونياك وقبلتها من العنق. لم تمانع. اوشكتُ ان احملها الى الفراش فنهضتْ فجأة. اخذت تتهادى بقوامها النحيف، وسط الصالون، كما لو كانت تعرض، بأسلوب كوميدي، زياً على منبر، ثم عادت لتطفئ السيجارة وترفع قدح الكونياك:
- سأسافر صباح غد الى زمهرير كيرونا لزيارة جدتي. هيا، صحتكَ.
قلتُ 'صحتكِ' وانا اقرع الكأس بكأسها،
ثم سألتُ:
- متى ترجعين ؟
هزت كتفيها تعبيرا عن الجهل:
- اسبوع ؟ شهر ؟ شهران ؟
مضى الوقت سريعاً ونحن نشرب وندخن ونتحدث. انفلق الفجر دون ان نعلم. ولا ادري متى ذابت الشمعتان. مضينا مترنحين الى الفراش. كانت البلابل تغرد في الخارج بنشوة. ضاعف ذلك من هياجي. خلعتُ السروال ، لكنها هَمَستْ بصوت ناعس مثير 'احبك' وغفت. انبعث من فمها نصف المفتوح شخير خافت.

الحمار
سأل والد عن سبب سقوط ولده المتكرر بمادة الانشاء، رد المدرس:
- لا ادري لماذا يخرج ولدكم عن الموضوع في كل مرة.
تساءل الوالد:
- كيف ؟ ماذا تعني؟
- قلت للتلاميذ اكتبوا عن العراق ما بعد 2003، فكتب ولدكم: نعيش الآن ربيع
الديمقراطية بعد ان كان الجميع (بمن فيهم الحيوان) يعاني الجوع والظلم بصبر عجيب.
ولو نظرتَ بتدقيق للحمار ستراه يتميز بالصبر والبراءة والاحتراس وحتى الذكاء
(يحفظ الطريق ذهابا وايابا). وهو يصلح للركوب والحمل ، كما ينجب من الفرس البغال المستخدمة في احدث الجيوش ، كالجيش الأمريكي مثلا. لذلك ارى ان هذا الحيوان الداجن يستحق الحب والاحترام ... ويواصل مدح الحمار فينسى الموضوع الأصلي ، وهو عراق ما بعد 2003.
قال والد التلميذ للمدرس:
- ربما كانت هذه من شطحات شاب بسيط مبتهج بالتخلص من النظام الدكتاتوري ، لكن المقترح كتابة موضوع آخر؟
- نعم. قلت اكتبوا عن مناخ العراق، فكتب ولدكم: المناخ حار وجاف صيفا، بارد وممطر شتاء، معتدل خريفا، وفي الربيع تتفتح الورود وتنتعش المراعي فينعم الحمار بالأكل حتى يشبع. ولو نظرت بتدقيق للحمار ستراه يتميز بالصبر والبراءة والاحتراس وحتى الذكاء (يحفظ الطريق ذهابا وايابا). وهو يصلح للركوب والحمل ، كما ينجب من الفرس البغال المستخدمة في احدث الجيوش، كالجيش الأمريكي مثلا. لذلك ارى ان هذا الحيوان الداجن يستحق الحب والاحترام ... ويواصل مدح الحمار فينسى الموضوع الأصلي، وهو مناخ العراق.
قال الوالد للمدرس:
- قد يكون المناخ ، والربيع تحديدا ، يرتبط بشكل ما بوفرة طعام الحيوانات في المراعي؛ من الشائع عندنا القول 'مُتْ ياحمار الى ان يأتيك الربيع'، وهو ما جعل ربما ولدي يخرج عن موضوع الانشاء.
قال المدرس:
- لا ، طلبت ان يكتبوا عن المسرح، فكتب ولدكم: المسرح مصدر ثقافة ومتعة، ومعناه اصلا المكان الذي تسرح فيه الانعام والحمير لترعى. ولو نظرت بتدقيق للحمار ستراه يتميز بالصبر والبراءة والاحتراس وحتى الذكاء (يحفظ الطريق ذهابا وايابا).
وهو يصلح للركوب والحمل، كما ينجب من الفرس البغال المستخدمة في احدث الجيوش، كالجيش الأميركي مثلا. لذلك ارى ان هذا الحيوان الداجن يستحق الحب والاحترام ... ويواصل مدح الحمار فينسى الموضوع الأصلي، وهو المسرح.
سأل الوالد المدرس:
- الم تجرب ان تعطي موضوعا لا يتضمن على الاطلاق اي ايحاء الى الحمار؟
قال المدرس:
- جربت مرارا. هو يبدأ بسطرين عن الموضوع وينتهي بصفحات عن الحمار. طلبت من التلاميذ ان يكتبوا عن الكومبيوتر، فكتب ولدكم: الكومبيوتر جهاز لا يمكن
الاستغناء عنه في العصر الحديث، لكن الحمار ايضا لا يمكن الاستغناء عنه. ولو
نظرت بتدقيق للحمار ستراه يتميز بالصبر والبراءة والاحتراس وحتى الذكاء (يحفظ
الطريق ذهابا وايابا). وهو يصلح للركوب والحمل، كما ينجب من الفرس البغال
المستخدمة في احدث الجيوش، كالجيش الأمريكي مثلا. لذلك ارى ان هذا الحيوان
الداجن يستحق الحب والاحترام ... ويواصل مدح الحمار فينسى الموضوع الأصلي، وهو الكومبيوتر.
لذلك سقط في مادة الأنشاء.
ابلغ الوالد ولده بما قال المدرس فاغتاظ جدا ورفع ضده شكوى:
السيد وزير التربية والتعليم المحترم
تحية وبعد
اتقدم لسيادتكم بشكوى ضد مدرس مادة الإنشاء بعد ان صبرت على جوره كثيرا. ولو نظرت بتدقيق للحمار ستراه يتميز بالصبر والبراءة والاحتراس وحتى الذكاء (يحفظ
الطريق ذهابا وايابا). وهو يصلح للركوب والحمل، كما ينجب من الفرس البغال
المستخدمة في احدث الجيوش، كالجيش الأمريكي مثلا. لذلك ارى ان هذا الحيوان
الداجن يستحق الحب والاحترام ...

' اديب عراقي مقيم في السويد
' الفكرة مستوحاة من موضوع شعبي عن الجمل